نهال وهبى تكتب عن: محمود مختار ونهضة مصر

نشرت في جريدة الشروق
2018استطاع النحات العظيم محمود مختار (١٨٨٣ــ ١٩٤٤) عن عمر يناهز الأربعين عاما أن يكون له تأثير هائل على الفن الحديث المصرى ولا سيما النحت. أصبح أسطورة ومعلما بارزا تتوج أعماله العديد من الميادين الرئيسية فى القاهرة والإسكندرية. كان من أوائل الفنانين الذى جسد فنه الهوية المصرية ليس فقط لنحته للشخصيات البارزة وموضوعات أعماله المصرية الأصيلة ولكن أيضا من خلال إبداعه الفنى الفريد. بقيت أعماله تبسط روح اللحظة، وأحلام الأمة، وتاريخا غنيا لحضارة وثقافة عظيمة، تؤذن لبداية جديدة. لقد استطاع مختار من أن يكون جسرا بين الماضى والحاضر وما بين الشرق والغرب من خلال أعماله ثلاثية الأبعاد، فوضع بذورا لأجيال قادمة فى تأصيل التجربة مع التاريخ والثقافة والهوية ودمجها مع متطلبات عصرهولد مختار فى ١٠ مايو ١٨٨٣ فى قرية صغيرة بالقرب من المحلة الكبرى، والتحق بالكتاب كما اعتاد أبناء جيله فى ذاك الحين. عاش فى قريته الصغيرة حيث كان مولعا بالفن والتراث الشعبى من الحكايات، الروايات، القصص والأساطير القديمة مثل عنتر ودليلة، وأبو زيد الهلالى. وكان من بين جيله عباس العقاد، طه حسين، إبراهيم عبدالقادر المزنى، يوسف كامل، سيد درويش، محمد حسن، راغب عياد. انتقل إلى القاهرة فى عام ١٩٠٢ ليعيش فى أزقتها وأحيائها القديمة، فرسم كل شىء من حوله، ليكشف إحساسا لأشخاص وأفاقا جديدة أكثر تنوعا من قريته الصغيرة
والتحق محمود مختار بمدرسة الفنون الجميلة التى قد أنشأها الأمير يوسف كمال فى القاهرة فى ١٢ مايو ١٩٠٨، وكان مختار من أوائل خريجيها عام ١٩١١. وكان للسيد لابلانى، مدير المدرسة الفرنسى، أثر كبير عليه، فقد ألهم طلابه السعى إلى السمو والترقى من خلال الحرية والاستقلال والشعور بالمسئولية والعدالة وتقدير الجمال والفن.
استطاع مختار فى سن مبكرة أن يعى علاقة الفن المصرى القديم بالكون والطبيعة والتوافق الكونى والمعنى الحقيقى للخلود واكتسب منه قيم الاتزان والرسوخ والاختزال فى خطوط رمزية والتوازن الإيقاعى والرشاقة فى الأشكال والبناء المتين.
فى عام ١٩١١، حصل على منحة دراسية إلى باريس فى مدرسة الفنون الجميلة، حيث تأثر بالفن الفرنسى الأكاديمى وبأعمال النحات الفرنسى رودن. كما تعلم موازية قيم وسبل التحرر من القيود والتمرد فى ممارسات الفن.
وفى غضون سنتين، تم الترحيب به فى صالون الفن ضمن الفنانين الفرنسيين حيث عرض عملا نحتيا «عايدة» المستوحى من أوبرا عايدة لفيردى التى أعدت خصيصا لحفل افتتاح قناة السويس فى مصر فى عهد الخديوى إسماعيل. وكان كل ذلك ملحمة قادها فى باريس عام ١٩١٣ لتتوج أول عمل فنى لفنان مصرى فى أوروبا ليقود الفن المصرى إلى أفق العالمية. وارتبط بقوة مع الحركة الوطنية الداعية للاستقلال والتحرر. ويعد مختار من رموز ثوره ١٩١٩ الشعبية بقيادة الزعيم سعد زغلول. فقد قام بنحت تمثالى سعد زغلول بالقاهرة سنة ١٩٢٨ والموجود بمنطقة الجزيرة أمام كوبرى قصر النيل وبالإسكندرية سنة ١٩٣٥ بمحطة الرمل.

سعد زغلول أمام تمثال نهضة مصر

سعد زغلول أمام تمثال نهضة مصر

تمثال سعد زغلول للفنان محمود مختار

تمثال سعد زغلول للفنان محمود مختار

حمل مختار راية الاستقلال والحرية التى كان ينادى بها المجتمع المصرى، فتكلم بلغة العصر، معبرا عن روح الأمة وتاريخها بعبقرية الفنان الأصيل.
قدم الفنان فى باريس نموذجا لأهم عمل له ليجسد حلم «نهضة مصر» ونال عليه جائزه الشرف. وقد تم تكبيره فيما بعد بدعم حكومى وشعبى واسع باعتباره رمزا للإرادة والوحدة الشعبية حيث ساهم الشعب المصرى فى اكتتاب عام لإقامته.
فصور امرأة واقفة تزيح غطاء رأسها، محتضنة تمثال أبو الهول الذى ينهض بفخر. نقل التمثال من مكانه الأول من ميدان باب الحديد أو رمسيس حاليا إلى ميدان جامعة القاهرة فى عام ١٩٥٥. وكان لمختار دور كبير فى إحياء النحت المصرى الحديث، وكان محوريا فى تنشيط حركة فنية ناشئة وأسس جماعه الخيال التى أقامت المعارض والندوات، مستندا على رؤية واضحة لحركة تنويرية، ضمت العديد من الفنانين والمفكرين أضاءوا شعلة الحرية والتقدم.

 
صورة من الافتتاح الرسمي لتمثال نهضة مصر ويظهر في الصورة سعد زغلول، رشدي باشا، محمود مختار ورمسيس ويصا واصف

صورة من الافتتاح الرسمي لتمثال نهضة مصر ويظهر في الصورة سعد زغلول، رشدي باشا، محمود مختار ورمسيس ويصا واصف

 
WhatsApp Image 2020-07-27 at 3.42.59 PM (2).jpeg
WhatsApp Image 2020-07-27 at 3.42.59 PM (1).jpeg


وكان مختار كاتبا تناول بحرفية قضايا الوطن والفن. وقد أقامت الدولة له متحفا خاصا لأعماله والذى صممه رمسيس ويصا واصف بأرض الجزيرة بالقاهرة، وافتتح المتحف سنه ١٩٦٢.
شهدت فتره العشرينيات إلى الخمسينيات من القرن الماضى حركة ثقافية يحركها الفن والفكر وكانت أزهى عصورنا الفنية الحديثة. وفى ذكرى ميلاد مختار نجد فى تجربته نموذجا مصريا أصيلا وصادقا لازدهار حركه فنية أصيلة يجب التعلم منه والاقتداء به.
وقد شهدت المنطقة العربية أخيرا تزايد الاهتمام بالفن الحديث فى الشرق الأوسط وإفريقيا رغبة فى الأخذ بمظاهر التقدم. فقد قامت المتاحف والمؤسسات العربية باقتناء أعمال عديدة للفن المصرى الحديث بالإضافة لمقتنياتهم الخاصة. كما وجدنا أخيرا اهتمام دول أوروبا بالفن الحديث المصرى ولا سيما أعمال السرياليين وجماعة الفن المعاصر. فقد أقيم معرض جماعة الفن والحرية، باسم الانشقاق والحرب والسريالية فى مصر من ١٩٣٨ حتى ١٩٤٨، الذى نظمته مؤسسات عربية بالتعاون مع مؤسسات دولية فى المتحف الوطنى الحديث ــ مركز بومبيدو فى باريس فى أكتوبر٢٠١٦ــ ثم عرض فى كل من المتحف الوطنى مركز رينا صوفيا للفنون فى مدريد، ومتحف كونست ساملونج نوردراين ويستفاليا ك٢٠ بدوسلدورف بألمانيا، ومتحف التايت ليفربول بالمملكة المتحدة. وسيختتم المعرض جولته الدولية فى متحف مودرنا موسييت فى ستوكهولم فى السويد حيث سيتم عرضه من ٢٨ أبريل حتى ١٢ أغسطس.
فنجد من المهم فى هذه الفترة إقامة الفاعليات الفنية الهادفة والاهتمام بالأرشيفات والكتب والمتاحف الفنية وصالات العرض باستخدام طرق الإدارة الحديثة فى جذب الجمهور والحفاظ على تراثنا التشكيلى وعرضه بأحدث الأساليب العصرية وتقديم رؤية جديدة للفن المعاصر وإقامة الندوات التى من شأنها زيادة الوعى بالفن ودوره الفعال فى بناء المجتمع والإنسان وخاصة مع زيادة اهتمام بعض فئات المجتمع بالفن فى الآونة الأخيرة. بالإضافة إلى فتح مجال التحاور مع المؤسسات والمتاحف العالمية، فيجب أن نضع رؤية واضحة للاستفادة من هذا الاهتمام الدولى فى تدعيم لغة الحوار واستخدام الفن والثقافة كنقطة جذب ثقافى وفنى وسياحى.
فالفن يشكل أداة للتفاهم العالمى ويحتل مكانة كبيرة ومهمة بالنسبة للفرد والمجتمع، كما أنه يستطيع التأثير على التماسك الاجتماعى ومن خلال الفنون تقاس حضارة وتقدم الشعوب.


ونجد فى المقابل على مدى العقود الماضية، ــ والتى ازدادت أخيرا لبعض الأسباب الاقتصادية،ــ تقليصا فى الأنشطة الثقافية والمؤسسات الفنية، وتقليص حجم ودور المتاحف من خلال إهمالها أو إغلاقها. مثال على ذلك متحف الفن الحديث بالقاهرة ووقف نشاط بينالى القاهرة والإسكندرية وغيرها من الفاعليات الدولية المهمة وعدم الاهتمام بالأرشيفات الفنية وضعف مستوى العروض الفنية فى القاعات الحكومية فى الآونة الأخيرة (باستثناء عدد قليل منها) والاكتفاء ببعض العروض السطحية وعدم التواصل الكفؤ مع الجمهور والنظرة قصيرة المدى لدور الفن الحقيقى.
ومن الجدير بالذكر أن مثل هذه الفاعليات والمعارض بالإضافة إلى المتاحف والمؤسسات الفنية يكون لها دور استرشادى يضمن ظهور المواهب المتميزة، وجودة وتطور الفن لرفعة المجتمع والإنسان بالإضافة إلى جوانب تربوية وثقافيه أخرى.
ومن المتوقع أن يزيد الاهتمام بالفن فى المنطقة بشكل أكبر نتيجة لزيادة الوعى بدور الفن التنموى والسياسى والتربوى بالإضافة لدوره الترفيهى. فقد أعلنت السعودية زيادة إنفاقها على الفن والثقافة لتصل إلى ٦٠ مليار دولار فى السنوات المقبلة.
وللأسف، فى حين أن مصر من الممكن أن تلعب دورا أكبر فى منطقه الشرق الأوسط وإفريقيا المدعوم بتراثها وتاريخها العريق ــ فإن عدم وجود رؤية واستراتيجية واضحة يلتف حولها الجميع، يضر بدور مصر الاستراتيجى فى وقت نحن فى أمس الحاجة إليه.

Previous
Previous

Art Appreciation and Visual Perception

Next
Next

The new Silk Road