نهال وهبي تكتب: ثروت عكاشة فارس الثقافة المصرية

نشرت في جريدة الشروق
تحتفل وزارة الثقافة هذا العام بأحد رموزها الأجلاء الذين ساهموا فى إثراء الحياة الثقافية وذلك فى إطار خطة وزارة الثقافة للاحتفاء برموز مصر عرفانًا بما قدموه من إنجازات ساهمت فى تنمية الفرد والمجتمع والحفاظ على ريادة مصر الثقافية وتراثها الحضارى باعتبارهم قدوة ونموذجا يعتد به للتفوق والإصرار، وقد نظمت وزارة الثقافة برنامجا على مدار العام الحالى 2021 للاحتفال بمرور100 عام على ذكرى ميلاد الدكتور ثروت عكاشة، ويتضمن البرنامج مجموعة من الفعاليات والأنشطة المتنوعة فى مجالى الفكر والفن تقام بمختلف المحافظات وتنظمها هيئات وقطاعات الوزارة والتى بدأت بحفل بأوركسترا القاهرة السيمفونى الأسبوع الماضى، والتى أسسها د. ثروت عكاشة.

ثروت عكاشة

ثروت عكاشة

ثروت عكاشة أثناء حفل تكريمه لنهاية فترة رئاسته للبنك الأهلي المصري

هو أحد أبرز رموز الثقافة فى مصر والوطن العربى فقد قام د. عكاشة أثناء رئاسته لوزارة الثقافة بإعادة صياغة الحياة الثقافية عن طريق إقامة بنية مؤسسية ضخمة، وهى الأهم فى النشاط الثقافى حتى الآن وكذلك وضع استراتيجية ورؤية ثقافية للنهوض بالمجتمع والفنانين، حيث أنشأ العديد من المؤسسات الثقافية التى كانت وما زالت تثرى الحياة الثقافية فى مصر. وقد بدأ رؤية وتجربة الثقافة الجماهيرية، التى تحوّلت فيما بعد إلى «الهيئة العامة لقصور الثقافة»، والتى تأسس من خلالها العديد من قصور الثقافة، ولعبت دورا مهما فى نشر الثقافة والمعرفة فى جميع أنحاء مصر. كما أنشأ معهد الباليه، ومعهد الكونسرفتوار للموسيقى، وأكاديمية الفنون، ودار الكتب والوثائق الجديدة، وقصور الثقافة، وفرقة الموسيقى العربية والفرقة القومية للفنون الشعبية، والسيرك القومى، وعروض الصوت والضوء. وله الكثير من المؤلفات فى الفن والفكر والثقافة ليشهد الإبداع خلال توليه الوزارة حالة من الازدهار والتألق فى فترة انتقالية هامة من تاريخ مصر فى النصف الثانى من القرن العشرين.

شارك د. ثروت عكاشة فى حرب فلسطين ١٩٤٨ وكان من الضباط الأحرار الذين شاركوا فى ثورة ٢٣ يوليو عام ١٩٥٢ وينتمى د. عكاشة إلى أسرة عريقة لها بصمة فى مجالات عديدة منها: الحربية والسياسة والطب والثقافة، حيث تلقى تعليمًا وثقافة رفيعة ومتنوعة، وتعلم الموسيقى مبكرًا فى منزله. ولد بالقاهرة عام ١٩٢١ وتخرج فى الكلية الحربية عام ١٩٣٩ ثم كلية أركان الحرب عام ‎١٩٤٨. وفاز بجائزة «فاروق الأول العسكرية الأولى فى مسابقة القوات المسلحة للبحوث والدراسات العسكرية عام ١٩٥١ وحصل على دبلوم الصحافة من كلية الآداب جامعة فؤاد الأول (القاهرة) عام ١٩٥١ ونال درجة الدكتوراه فى الأدب من جامعة السوربون بباريس ١٩٦٠. ثم شغل منصب وزير الثقافة والإرشاد القومى من ١٩٥٨ إلى ١٩٦٢ و من ١٩٦٧ إلى ١٩٧٠ و وقد تولى د. عكاشة رئاسة البنك الأهلى من ١٩٦٢ إلى ١٩٦٦ وشغل منصب رئيس المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية فى ١٩٦٢ و ١٩٦٦ و ١٩٧٠. ثم مساعد رئيس الجمهورية للشئون الثقافية من ١٩٧٠ إلى ١٩٧٢ وله مساهمات عديدة فى المشروعات الثقافية والحضارية الكبرى.

كان د. ثروت عكاشة قيمة كبيرة ورائدًا من رواد الثقافة ليس فى مصر فقط وإنما فى العالم كله، فكان مهتما بالفلسفة والموسيقى والفنون، وكان متذوقا للموسيقى وتناولها فى كتاباته ومشروعاته، وفى مجال الأدب، كان د. ثروت عكاشة مولعا ببرنارد شو، وترجم عنه الكثير من الكتب، وعمل باحثًا زائرًا فى College De France. نشر أكثر من ٧٠ كتابا، من بينها مذكراته المكونة من ثلاثة مجلدات بعنوان (مذكراتى فى السياسة والثقافة)، والتى تعتبر موردا غنيا لمؤرخى فترة الخمسينيات والستينيات. بالإضافة إلى موسوعة فنون مؤلفة من ٣٨ مجلدًا بعنوان العين تستمع والأذن ترى، وقد كان مهتما أيضا بموضوع وحدة الفنون باعتبار أنها متكاملة ولا تتجزأ، فيجب أن يكون الفنان ملما بأنواع الفنون المختلفة.

وقد اعتبر اليونسكو عكاشة، رائدًا من رواد العمل الثقافى فى العالم، بسبب إسهاماته فى تأسيس الكثير من المؤسسات الثقافية وإنقاذ آثار النوبة ومعبدى فيلة وأبى سمبل.، فقد حافظ على تراث أحد أعظم حضارات العالم الإنسانية، وكذلك كان من رواد الفكر وصاحب رؤية استراتيجية تهتم بتطور الفرد والمجتمع عن طريق إقامة المشروعات التنموية والثقافية التى تقوم بها الدولة.

كانت آثار النوبة عرضة لخطر الغرق أكثر من مرة قبل بناء السد العالى، الأولى عند بناء خزان أسوان سنة ١٩٠٢، المرة الثانية سنة ١٩١٢، والثالثة فى سنة ١٩٣٢، وعندما تقرر إنشاء السد العالى أصبح واضحًا أن آثار جنوب الوادى عرضى لارتفاع كبير لمنسوب المياه. هذه الآثار التى تمثل عبقرية الإبداع المصرى. فأخذ د. ثروت عكاشة على عاتقه مسئولية انقاذ آثار النوبة وشرع فى إقناع القيادة السياسية والعالم بضرورة إنقاذها. فقد اعتبر د. ثروت عكاشة الآثار المصرية سفيرا لمصر فى العالم، فيقول: «لقد تبين لى أن بين أيدينا مجموعة ضخمة من الآثار أشبه ما تكون بالسفراء لنا لدى الدول تنطق بلسان أفصح ما يكون بيانا وإقناعا، ولم أشك فى أننا لو أرسلناه للعرض الخارجى لحمل إلى العالم رسالة خلاصتها أن الناس الذين استطاعوا أن يقدموا للإنسانية هذا الجلال المهيب منذ آلاف السنين قادرون على استئناف الرحلة إلى التقدم والامتياز». وتم عمل دراسة وافية وكاملة عن الأماكن الأثرية التى ستغمرها المياه عام ١٩٥٤، ونشرت الدراسة عام ١٩٥٥ بلغات ثلاث، العربية والإنجليزية والفرنسية، ووزعت على الهيئات العلمية المختلفة فى العالم لحثها على المساهمة. وتحت عنوان «٥٠٠٠ سنة فن مصرى» كان أول معرض للآثار طاف بلدان أوروبية ومدنها الكبرى، وحقق نجاحا كبيرا.

نقل معبد أبي سمبل فى عام 1964

نقل معبد أبي سمبل فى عام 1964

معبد فيلة قبل نقله

معبد فيلة قبل نقله

معبد فيلة بعد نقله

معبد فيلة بعد نقله

«فلتتضافر أيدينا كى نسحب المياه من تحت قدمى إيزيس، عسى أن تضيف يوما خاتمة لكتاب «موت فيلة» بعنوان «بعث فيلة» هكذا عبر بوعى د. عكاشة عن رغبته فى إنقاذ آثار النوبة لممثل اليونسكو فى ذلك الوقت حين قدم له كتاب «موت فيلة» وأتت الزيارة بثمارها ووافقت منظمة اليونيسكو على القيام بدراسة الوسائل العلمية لحماية تلك الكنوز الفنية والتاريخية. وبلغت تقديرات تكاليف رفع معبدى أبى سمبل فقط ٨٧ مليون دولار، كانت مصر ستدفع منها ٢٠ مليون دولار.

و أثناء رئاسة د. عكاشة للبنك الأهلى المصرى، عمل على زيادة الوعى بأهمية الثقافة فى الحياة اليومية للفرد والمجتمع من خلال إقامة المحاضرات الفنية والثقافية. فقام بدعوة مؤرخين ونقاد الفن العالميين لتقديم سلسلة من المحاضرات. وعقدت هذه المجموعة من المحاضرات فى القاعة الكبرى بجامعة الدول العربية وكان لها تأثير واسع فى الأوساط الثقافية والفنية، كما أدت إلى تبنى البنك هذه الرؤية والاهتمام بالفن والفنانين فخصص البنك الأهلى المصرى مبلغا كل عام لاقتناء الأعمال الفنية أسوة بالمؤسسات العالمية الكبرى. وتطورت مجموعة البنك الأهلى المصرى من اللوحات الفنية والنحت عاما بعد عام حتى أصبحت مجموعة مؤسسية مهمة للفن المصرى الحديث. كما قام البنك بنشر أهم الأعمال الفنية للفنانين المصريين وإقامة المعارض للتعريف بأعمالهم بهدف زيادة الوعى والتذوق الفنى لدى الأفراد والمجتمع. كما استطاع د. ثروث عكاشة تأسيس مجلة «أهلى» وهى مجلة دورية يصدرها البنك والتى هدفت إلى زيادة الوعى المعرفى والثقافى للعاملين داخل البنك وهى ما زلت مستمرة حتى الآن تحت اسم «مجلة أهل مصر». كما ساهم د. عكاشة فى وضع رؤية وخطة استراتيجية للبنك لدعم مركزه وذلك بعد فصل مهام البنك المركزى عنه وتأميمه عام ١٩٦٠ ولمواكبة التغيرات الاقتصادية والسياسية ودعم خطة الدولة الخمسية للتنمية فى ذلك الوقت. واستطاع بإدارته الحكيمة تعدى العقبات والتحديات التى واجهت البنك أثناء هذه الفترة المحورية فى تاريخ مصر. وكان له الفضل فى تبنى البنك لمشروع شهادات الاستثمار وخروجه حيز التنفيذ وكان قدوة للقيادة الحكيمة العادلة التى تقوم على تعزيز العمل الجماعى والبحوث.

يشار إلى أن احتفالات الثقافة بمئوية الدكتور عكاشة تستمر طوال ٢٠٢١ وتشمل مؤتمرات وندوات واحتفاليات عديدة لمناقشة وعرض لأهم إنجازاته، فارس الثقافة المصرية فى النصف الثانى للقرن العشرين وصاحب رؤية مستنيرة واستراتيجية واضحة ورفيعة تقوم على تنمية الفرد والمجتمع والحفاظ على تراثنا الثقافى ليكون أحد أهم رموز الثقافة ليس فقط فى مصر وحدها وإنما فى العالم كله.

Next
Next

مختارات من الفن الأوروبى فى قصر عائشة فهمى بالزمالك